الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
والمصنِّفُ رحمه الله تعالى بصدد بيان تهذيب الألفاظ، وقد مرَّ ما عن ابن سيرين رحمه الله تعالى. 641- (قوله:) (ما كِدْتُ أن أُصَلِّي)... إلخ. قد عَلِمْتَ فيه اختلاف آراء النُّحَاة، فإن حَمَلْتَه على رأي الجمهور، فالترجمةُ مأخوذةٌ من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن أَخَذْتَ رأيَ بعض النحاة، فيمكن أخذها من قول عمر رضي الله عنه أيضًا. 641- (قوله:) (بعدما أفطر الصائمُ)، وهذا من بابالمحاورات، ولا يَستَدْعِي أن يكون هناك صائمٌ أيضًا.
وفي «الدر المختار»: أن الإِمامَ إن مَكَثَ بعد الإقامة، ولم يَدْخُل في الصلاة حتى طال الفصل يُعِيدُها، وإلا لا وأمَّا ضَبْطُ البطء. وعدمه، فعسيرٌ. 643- (قوله): (فَحَبَسَهُ بعدما أُقِيمَتِ الصَّلاةُ): هذه واقعةٌ واحدةٌ، وما تُوهِمُه ألفاظ الترمذي: أنها كانت عادةً له فقد علَّله البخاري. وأمَّا الرجلُ فِلم يدركه الشارحان من هو. قلتُ: وقد وَجَدْتُ اسمه، وهو مذكورٌ في «الأدب المفرد» للبخاري. ثم لمَّا اتضحَ أن احتباسه صلى الله عليه وسلّم كان لحاجةٍ، ثم في واقعةٍ واحدةٍ فقط، لم يُخَالِفْه تضييق الفقهاء، فإنهم اختاروا الإِعادةَ فيما إذا طال الفصلُ، فليراجع له «الأدب المفرد»، فإِنه مهمٌ. ومَنْ يُمْعِنُ النظرَ فيه يَفْهَمُ أنه لا توسيعَ فيه، لأن الرجل كان من رؤساء القوم، وقال: إن له حاجةً لعلَّه ينساها بعد الصلاة، فأراد أن يُبَادِرَ بها الصلاة، فتبيَّن العُذْرُ. وإذا احْتَفَّت الواقعةُ بقرائنِ التضييق، فليقتصرها على مورها، ولا ينبغي التوسيع فيها لأجل واقعةٍ واحدةٍ وقد تردَّدت في تلك الرواية، وأتِعبْتُ لها نَفْسِي، فإنّ الحافين لم يُدْرِكا هذا الرَجل، رأيتُ إعلامه أهم، فَقَلَّبْتُ لذلك دفاترَ، حتى وجدت اسمه في «الأدب المفرد»، وقد وقع لي مثله كثيرًا. نعم لا يُقْتَنَصُ العلم براحة الجسم.
اختار الوُجُوبَ، ولنا فيها قولان: الأول: أنها سنةٌ مؤكَّدةٌ، والثاني أنها واجبةٌ. وقال صاحب «البحر»: إنَّ أدنى الوُجُوب وأعلى السنة المؤكَّدة واحدٌ، فلم يَبْقَ خلاف. بقي أنَّ تَرْكَ السنةِ: عِتَابٌ، أو عِقَابٌ، فلا أَدْخُلُ فيه، وقد مرَّ بعضُ الكلام فيها. وعند الشافعي أيضًا قولان: فقال بعضُهم: فرضُ كفاية، وقال آخرون: سنةٌ موكَّدةٌ. وهكذا عند أحمد رحمه الله تعالى قولان: ففي قولٍ: فرضُ عينٍ وشرطٌ لصحة الصلاة، وفي آخر: ليست بشرطٍ للصحة، مع كونها فرضُ عينٍ. والمشهور بيننا من مذهبه: أنها واجبةٌ. والخلافُ في الحقيقة راجعٌ إلى نَظَرٍ معنويَ، وهو أنه قَلَّما يكون فرضٌ من الفرائض إلا تَتَطَرَّقُ إليه الأعذار، أَلا تَرَى أن الجماعةَ قد وَرَد فيها الوعيدُ على تاركها، ثم جاءت فيه الرخصةُ بأمورٍ يسيرةٍ، كحَضْرَة الطعام وغيرها. فَيَتَعَسَّرُ الحكم في مثله، فيجيءُ واحدٌ من المجتهدين، ويُلاحِظُه مع تلك الأعذار، ويَحْكُمُ على المجموع، فلا يُمْكِنُه الحكمَ بالوُجُوبِ والافتراض، لأنه إذا دَخَلَت تلك الأعذار في نظره، وحكم مُلاحِظًا إياها، فقد ثَبَتَ تَرْكُهَا، فانحطَّ عن مرتبة الفرض، وَنَزَل إلى النِّيَّة. ومن قَطَعَ نظرَه عن تلك الأعذار، ولاحَظَهُ من حيث هو هو، ورَاعَى الوعيدَ الواردَ فيه، لم يُمْكِنْهُ أن يَحْكُمَ عليه إلا بالافتراض، ثم جعل له أعذارًا من الخارج. وهذا كالمُحَال بالذات وبالغير عند المعقوليين، فمن لاحظ هذا الغير مع الشيء أمكنه أن يَحْكُمَ على المجموع بكونه مُحَالا بالذات، لأن الغيرَ إذا لُوحِظَ في مرتبة ذاته، وحُكِمَ بعد اعتباره حكمًا على المجموع من حيث المجموع، صَحَّ أن يَحْكُمَ عليه بكونه مُحَالا بالذات. ومن لاحظ ذاتَ الشيء التي هي ذاته، وقطع النظر عن هذا الغير الذي هو سبب الاستحالة، لم يُمْكِنْه أن يَحْكُمَ عليه إلا بالإمكان بالذات، لأن ذاته لم تَنْطَو على شيءٍ يُوجِبُ الاستحالة، وإنما هو خارجٌ عنها على هذا التقدير، فلا تكون الاستحالةُ إلا مِنْ خارجٍ، ولا يُمْكِن أن يُحْكَمَ عليه إلا بكونه مُحَالا بالنظر إلى الغير. فالفرق بين المُحَال بالذات وبالغير لا يَرْجِعُ إلى كثير طائلٍ، وإنما هو من باب اختلاف الأنظار والاصطلاحات. وهكذا الوُجُوبُ والنِّيَّةُ، فمن رأى الوعيدَ الواردَ، وقطع النظرَ عن الأعذار، رآه حقيقةً بتَّةً واجبةَ العمل عليها، فَحَكَمَ بالوجوب، ثم إذا مرَّ على الأعذار الواردة عدَّها كأنها عوارض من خارج، فلا تُؤَثِّرُ في نفس الشيء، غير أن له بتلك الأعذار رخصةً بترك الجماعة، فيسقط بها الإثم. بخلاف من اعتبر تلك الأعذار، وأراد أن يَحْكُمَ على مجموع الأمرين، لم يَسَعْ له الحكم بالوجوب، لأنه خَفَّت تلك الحقيقة، وهانت في نظره لاشتمالها على رخصة الترك. وهذه كُلِّيَّةٌ تَنْفَعُكَ في كثيرٍ من المسائل وهي التي دَعَتْهم إلى الاختلاف في صفة الوتر، فإِنَّ الوترَ لمَّا أُطْلِقَ على مجموع صلاة الليل، ولم تَكُنْ حتمًا بمجموعها، وإنما فوَّض الشارعُ قطعةً منها إلى حِسْبَة المصلِّي وطَوْعِهِ يتطوَّع بها كيف شاء، وكم شاء؟ ولم يُعْطِ فيها عددًا معيَّنًا من عند نفسه، صار ظاهرُه السُّنية، ولم يُمْكِنِ الحكم على المجموع بالوُجُوب ولا يمكن، كيف، وحصَّةٌ منها نافلةٌ قطعًا، والمجموع إذا اشتمل على رُخْصة الترك في بعضه لا يُحْكَمُ عليه بالوُجُوب. وأما الحنفيةُ رحمهم الله تعالى، فلم يَحْكُمُوا على المجموع، بل أَفْرَزُوا منها حصةً أخرى فرأوها قد عيَّن وقتها وقراءتها وأمر بقضائها، فوجَدُوا شاكلتها كشاكلة سائر الواجبات، فحَكَمُوا عليها بالوُجُوب لا محالة، وهو الذي عُنِيَ من قوله صلى الله عليه وسلّم «إن اللَّهَ أمدَّكم بصلاةٍ، هي خيرٌ لكم من حُمْر النَّعَمٍ». ا ه. لا يريد بذلك مجموع صلاة الليل، بل هذه الحصة التي قَصَرَ الحنفيةُ أنظارهم عليها، ولذا تراهم لا يُنَازِعُوننا في رُخْصَةِ الترك، فاتفقوا كلُّهم على أن تركَ الوتر لا يَجُوز، وكذلك في الوقت والقراءة، وإنما يُنَازِعُون في تسمية الوُجُوب لا غير. فلو أدْرَكْتَ حقيقته، عَلِمْتَ: أن لا نِزَاع بعد الإِمعان إلا قليلا.، ولو راعيتَ أن اصطلاح الواجب لم يكن عند المتقدِّمين، وإنما شاع بين المتأخِّرين فقط، خَفَّ عليك الأمرُ، فلا يُوجَدُ إطلاق الواجب في كتاب الطحاويِّ، وكذا في تصانيف محمد عامةً وإنما كان هذا الواجبُ، داخلا عندهم في السُّنة. نعم السُّنة كانت على أنحاءٍ: بعضها أكيدةٌ، وبعضها غير أكيدةٍ. ولعلَّ الأكيدةَ هي الواجب، وقد مرَّ آنفًا عن «البحر»: أن أدنى الواجب عينُ أعلى السنة الأكيدة. وبعد هذه الأشياء لم يَبْقَ خلافٌ إلا من باب الاجتهاد، أعني به الخلاف في إقامة المراتب، ولكنهم يبحثون فيه كأن الخلاف فيه خلاف النصوص، فافهم. 644- (هَمَمْتُ): الهم في اللغة يُطْلَقُ في الشر، ثم أُطْلِق في الخير توسُّعًا. «ثم أُخَالِف» يعني به فراغه عن هذه الأشياء، ثم عَوْدُه إلى رجالٍ لم يَحْضُرُوا الصلاة. 644- (قوله): «أُحَرِّقُ عليهم بُيُوتَهم» ولا يجب أن يكون التحريقُ حال كونهم فيها، بل يَصِحُّ إطلاقه وإن خرجوا منها، وهذا في اللغة واسعٌ. (مرماة): قيل: لحمةٌ بين شِقَّي الغنم، وقيل: سهمٌ بدون نَصْلٍ يُسْتَعْمَلُ لتعلُّم الرمي فقط، وبالجملة هو شيءٌ. غير متقوَّمٍ. والحافظُ رحمه الله تعالى حَمَل الحديثَ المذكورَ على المنافقين، كما في البخاري، عن أبي هُرَيْرَة، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأَتَوْهما ولو حَبْوًا، لقد هَمَمْتُ أن آمُرَ المؤذِّنَ فيقيم، ثم آمُرَ رجلا يَؤُمُّ الناسَ، ثم آخُذَ شُعَلا من نارٍ، فأُحَرِّقَ على من لا يَخْرُج إلى الصلاة بعد». ا ه. ثم حَمَل النفاقَ على العمل لمَا عند أبي داود، عن أبي هريرة، وفيه: «آتي قومًا ليست بهم عِلَّةٌ، فأُحَرِّقُها عليهم»، وفي روايةٍ: «لولا صبيانهم في بيوتهم». قلتُ: ولعلَّه أراد منه الانتصارَ لمذهبه، لأنهم إذا كانوا منافقين، فالوعيدُ فيهم لحال نفاقهم، لا على ترك الجماعة فقط، فلا يَثْبُتُ به الوُجُوب أو الفرضية، ويمكن أن يكونَ تحقيقُ المقام فقط، وهذا بابٌ نبَّهناك عليه في كتاب الإِيمان: من أن المقام قد يشتمل على أوصاف، ثم يَرِدُ عليه حكمٌ، فبعضُهم يُنِيطُ الحكمَ بهذه الأوصاف، وبعضُهم يُرَاعي اللفظَ فقط، ولا يَنْظُرُ إلى الأوصاف التي في الخارج. فمن نظر إلى أن الوعيدَ فيه على الترك، جعله دليلا على الوُجُوب، ومن نَطَر إلى الأوصاف الخارجية كنفاق المتخلِّفين، رآه دليلا على السنية فقط. ثم لا أدري أنه لِمَ حَمَلَ النفاقَ على العملِ مع أن الأفيدَ له الاعتقادي. قلتُ: أمَّا كونه في حقِّ المنافقين، فهو صحيحٌ عندي، وأمَّا أن المرادَ من النفاق: هو العملي أو الاعتقادي، فالنظرُ دائرٌ فيه. وهكذا في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء: 142) وفي آيةٍ آخرى {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَرِهُونَ} (التوبة: 54) وفي آيةٍ آخرى {فويلٌ للمصلِّين الذي هم عن صلاتهم سَاهُون} (الماعون: 4- 5) الخ.وقد عَلِمْتَ: أن الإتيان إلى الصلاة هو الإتيان إلى الجماعة، ومن فاتته الجماعة، فقد فاتته الصلاة في نظر الشرع، وحينئذٍ فالذين يتخلَّفون عن الجماعات، ويَتَكَاسَلُون فيها هم مُنَافِقُون في لسان القرآن ولذا سمَّاهم الحديث أيضًا منافقين. وأمَّا وجهُ التردُّد في تعيين النِّفَاق، فلأنَّ صَدْرَ الآية الأولى يَدُلَّ على كونها في النفاق الاعتقادي لاشتمالها على ذكر خِدَاعهم، وعَجُزَها على كونها في النفاق لقوله تعالى: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}، ومع هذا أظنُّ أنها في الاعتقادي. أمَّا الثانية والثالثة، ففي النفاق الاعتقادي قطعًا، وحينئذٍ إن كان المراد في الحديث هو العملي، كما ذهب إليه الحافظ، فهو من باب إلحاق الجنس بالجنس عندي، فإِن نفاقَ العمل إذا بَلَغَ نهايته، وصار بحيث لا يتحمَّلُه الشرع أُلْحِقَ بالنفاق الحقيقي الاعتقادي. والحاصل أن الآيات في حقِّ المنافقين. أمَّا الحديثُ، فيُمْكِنُ أن يكونَ في حقِّ المنافقين، كما يُمْكِنُ أن يكونَ في حقِّ المسلمين المُسْرفين، إلا أن نفاقهم العملي لمَّا بَلَغَ نهايته سدَّ مسد النفاق الاعتقادي، ثم أُلْحِقُوا بهم على طريق إلحاق الجنس بالجنس الآخر، وأُجْرِي عليهم ما يجري على المنافقين اعتقادًا. ثم الحديثُ اسْتُدِلَّ به على كراهة الجماعة الثانية وعلى عدمها، وكلاهما عدولٌ عن الصواب، وقد قرَّرناه في درس الترمذي.
قوله: (وكان الأسودُ إذا فاتَتْه الجماعة ذَهَبَ إلى مسجدٍ آخر)... الخ. ولا يجبُ ابتغاء الجماعة في مسجدٍ آخر إذا فاتته جماعة المَحَلَّة. نعم يُسْتَحَبُّ له ذلك عندنا أيضًا. وفي الفِقْه: إن فاتت الجماعة يُجَمِّعُ مع أهله في بيته، وأمَّا من لم يَرْغَب في تحصيل جماعة المسجد أصلا وجَمَّعَ في بيته، فهل يُعَدُّ تاركًا للجماعة أو لا؟ فلم يتعرَّض إليها غير «الكبيري» فليراجعه. قوله: (وجاء أنسٌ إلى مسجدٍ قد صُلِّيَ فيه، فأَذَّنَ وأَقَامَ، وصلَّى جماعةً)، واستدلَّ به من اختار الجماعة الثانية، ووسَّع فيها أحمد رحمه الله تعالى، وذهب الشافعيُّ رحمه الله تعالى ومالك رحمهما الله تعالى إلى التضييق كما صرَّح به الترمذيُّ. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الكبيري: أنها تَجُوزُ بدون الأذان والإِقامة إذا لم تكن في موضع الإِمام. ولعلَّ تركَ الأذان والإِقامة مع ترك موضع الإِمام لتغييرها عن هيئة الجماعة الأولى، وفي ظاهر الرواية: أنها مكروهةٌ. ثم إن رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى محلُّها فيمن فاتتهم الجماعة، لا أنهم تعمَّدوا ذلك أو تعوَّدوه. أمَّا أثرُ أنس رضي الله عنه، فلا دليلَ فيه لِمَا في «مصنَّف ابن أبي شيبة» «أنه جَمَع بهم وقام وَسْطَهم، ولم يتقدَّم عليهم»، فدَّل أنه قصد تغيير الشَّاكِلَةِ كما فعله أبو يوسف رحمه الله تعالى، غير أن أبا يوسف رحمه الله تعالى غيَّرها بترك الأذانين وموضع الإِمام، وأنسًا رضي الله عنه بترك التقدُّم عليهم، على أنه لم يُجَمِّعْ في مسجد مَحَلَّته، وإنما جاء إلى مسجد بني زُرَيْق، وجَمَّعَ بهم فيه. ومسألةُ الجماعة الثانية فيما إذا جمع أهل تلك المَحَلَّة في مسجدهم ثانيًا. ثم إن الهيثمي أخرجه، وبوَّب عليه بما يُعْلَمُ منه أنها كانت قضاءً للفائتة، وحينئذ خَرَجَ عمَّا نحن فيه، وهو عندي وَهْمٌ منه. والهيثمي صاحب «مجمع الزوائد» تلميذ الحافظ العراقي، و«مجمع الزوائد» كتابٌ نافعٌ جدًا. قالوا إن الكُتُبَ على أربع مراتب: الأولى الصِّحَاح الست غير ابن ماجه، ثم «المسند» لأحمد رحمه الله تعالى في ستة مجلدات تحتوي على أربعين ألف حديث، ثم «مجمع الزوائد» للحافظ نور الدين الهيثمي، والرابعة «كنز العمال» إلا أن النقدَ فيه قليلٌ، ثم إن التكرارَ فيه مع تجديد الأذان والإقامة، ولا يقولُ به أحدٌ، فلا استدلالَ فيه أصلا. قوله: (صلاةُ الرجل في الجماعة تُضَعَّفُ على صلاته في بيته)... الخ. فيه مقابلةٌ بين صلاة الجماعة والفَذِّ، لا بين جماعة المسجد وجماعة البيت، فإن الجماعةَ في نظر الشارع في المسجد دون البيوت، وحينئذٍ فالصلاة في البيت لا تكون إلا منفردًا، وكذلك صلاته في سوقه، فإن المساجدَ في زمن السلف لم تكن في الأسواق، ولم تكن صلواتهم فيها إلا منفردين. وحاصل كلامه: إن الصلاة منفردًا- ولا تكون إلا في بيته، أو في سوقه- تَنْحَطُّ بكذا مرتبة من صلاة الجماعة، وإن شِئْتَ قلتَ: إن الصلاةَ في البيت مَفْضُولةٌ من الصلاة في المسجد، فإِنهما عبارتان عن معنى واحدٍ على الفرض المذكور. بقي تجميع فائت الجماعة في بيته، فهو بمعزلٍ عن النظر، لأنه من العوارض، لا أن الجماعات مشروعةٌ في البيوت لتبني عليها الأحكام. والمصنِّف رحمه الله تعالى جَزَم بأن هذا الفضل مختصٌّ بالصلاة في الجماعة، كما جَزَمْتُ أن الملائكةَ لا يشهدون إلا في صلاة الجماعة، وفيها يَتَعاقَبُون، فمن صلَّى في بيته لا يَدْخُلُون في صلاته. والسرُّ فيه: أن الصلاة في نظر الشرع هي صلاةُ الجماعة، لأنها الفردُ الأكمل، ولا يكون المراد في المواعيد ومواضع الترغيب إلا هو، أمَّا أنه إذا لم يُصَلِّها بالجماعة، أو فاتته، فكم يُنْتَقَصُ منها؟ وهل يبقى لها وجودٌ أو تَنْعَدِم عن أصلها؟ فكل ذلك من مراحل الفقه. ونظيره ما مرَّ مني في بيان مراد قوله: «قبل أن تَغْرُبَ الشمسُ»: أن الغروبَ عند الشرع بالاصفرار، وإن كان الغروب حسًّا بعده، فإِن الشرع لمَّا صرَّح بكراهة الصلاة عند الغروب، إذن كيف يَعْتَبرُه في سياق التعليم؟ نعم إذا كان السياقُ سياقَ الذم أمكن أن يُرادَ به الاصفرار، كما في الحديث: «تلك صلاة المنافق»... الخ. ولو علمتَ هذا الصنيع، علمتَ أن القرآنَ أيضًا مشى عليه، فلم يُرْخِ العِنَان لعاصٍ قطعًا، ولا تجدُ لهم فيه غير التشديد، نعم، إذا كان السياقُ سياقَ المغفرة، يُفْهَمُ منه أن لهم أيضًا تفصِّيًا.
650- (قوله): (دَخَلَ عليَّ أبو الدَّرْدَاء) كان عمر رضي الله عنه بَعَثَ الصحابةَ رضي الله عنهم إلى النواحي، ونَصَبَهم على مناصب خاصة فبعث أبا الدَّرْدَاء نحو الشام للتعليم، ونَصَبَ ابن مسعود رضي الله عنه على تولية بيت المال، وعَمَّارًا رضي الله عنه لإِمامة الصلاة، وسعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه للإِمارة على الكوفة. وكان عمر رضي الله عنه جَعَل الكوفة والبَصْرَة معسكرًا. (جهاؤني). وفي «فتح القدير»: أن قريته قَرْقِيسَة نَزَل فيها ست مئة من الصحابة رضي الله عنهم. وبالجملة كان الصحابةُ قد تفرَّقوا في النواحي والبلاد لإشاعة الدين، وتبليغ كلمة الإِسلام، ونشر الأحكام، فلو كان المالكية يَفْتَخِرُون بأن إمامهم من أهل المدينة معدن العلم، فلا نُنْكِرُ فضلهم في ذلك، غير أن أكثرَ الصحابة رضي الله عنهم كانوا نحو العراق، وهناك دُوِّن النَّحْوُ. قيل إن بَدْءَه كان من عليّ رضي الله عنه، فإِنه سَمِعَ مرةً رجلا يقرأ: {إن اللَّهَ بَرىءٌ من المشركين ورسوله} (التوبة: 3) بكسر رسوله، مع أنه مرفوعٌ، فتفكَّر في أنه كيف يُخَلِّص الأمةَ عن هذه المهالك، فإِن فيها العرب والعجم، فأَمَرَ أبا الأسود الدُّؤَلي أن يَجْعَلَ قانونًا يحفظها عن الخطأ في الكلام، وأَصَّلَ له أصولا، فقال: كلُّ فاعِلٍ مرفوعٌ، وكلُّ مفعولٍ منصوبٌ وكلُّ مضاف إليه مجرورٌ، ثم قال: انْحُ نحوه، فَشَرَعَ فيى تدوينه، وبَدَأَ من أفعال التعجُّب، فصوَّبه عليُّ رضي الله عنه، ثم جمع الحروف المشبَّهة بالفعل، غير أنه ترك: «لكن»، فأمره عليّ رضي الله عنه أن يزيدها عليها. وبالجملة إن كان لهم فَضْلٌ لكون إمامهم من مدينة الرسول، فلنا أيضًا فَضْلٌ، فإن إمامنا من البلدة التي نزل فيها جنودٌ مُجَنَّدَةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، حتى دار بها علمهم وسار، فاعلمه. والله تعالى أعلم بالصواب. 651- (قوله): (أَبْعَدُهم فَأَبْعَدُهم مَمْشى)، وليس هذا أجرًا لنفس الجماعة، بل هو من المكملات. ولا مُعْتَبر عندي بصِغَر الخُطَأْ وكِبَرِ كما نُقِلَ عن بعض السلف، لأن المراد عندي بُعْدُ المسافة وقُرْبُها، فإن كانت خطواتُه صغيرةً كان ثوابها أيضًا مثلها، فلا فرقَ بين صِغَرها وكِبَرها. «والمَمْشَى» مصدر ميمي، والحقُّ عندي أنه حاصلٌ بالمصدر، وليس عند النحاة، وإنما عندهم: المصدر، واسم المصدر. قلتُ: وما يسمُّونه اسم المصدر هو الحاصلُ بالمصدر عندي، كالرؤيا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى} (الإسراء: 60)... الخ ولذا لم يَقُل: رؤيته، لأنه مصدرٌ، والمراد ههنا: هو الحاصل به. ومن ههنا ظَهَر أن المراد من الرؤيا هنا ليس رؤيا المنام، بل رؤيا عين. وترجمته بالهندية. (دكهاوا). 651- (قوله): (والذي يَنْتَظِرُ الصلاةَ حتى يُصَلِّيَهَا مع الإِمام، أعظمُ أجرًا من الذي يُصَلِّي ثم يَنَام): يحتمل أن يكونَ المرادُ من الأول: من صلَّى مع الجماعة، ثم لم يَزَل جالسًا في انتظار صلاةٍ أخرى حتى صلاها مع الإمام. ومن الثاني: من صلَّى مع الجماعة ثم نام، ولم يُحْرِز فضيلةَ الانتظار للصلاة الأخرى. ويحتمل أن يكون المرادُ من الثاني: من صَلَّى مُنْفَرِدًا ثم نام، ولم يرغب في الجماعة. فالمقابلةُ على الأول: بين المصلِّيين بالجماعة إذا انتظر أحدُهما لصلاة أخرى، ولم ينتظر الآخر وعلى الثاني: بين المصلِّي بالجماعة والمصلِّي في بيته منفردًا، وعليه حَمَلَ الحافظ رحمه الله تعالى، واستفاد منه سُنية الجماعة، فإِن الشرعَ قابل بين المصلِّي بالجماعة، والتارك لها بعذر النوم. وما يُبَاح تركُه بأعذار يسيرةٍ، لا يكون شأنه شأن الواجب. فَإِذا عَلِمْنا أن الجماعةَ يجوز تركها بعذر النوم وإن كان مَفْضُولا عَلِمْنَا أنها سنةٌ وليست بواجبةٍ. أقول: ينبغي أن لا يُحْتَجَّ بمثل هذه الأمور على المسائل الفقهية، فإن الحديث لم يُسَقْ لبيان سنية الجماعة ووجوبها، وإنما سِيقَ لفضل الجماعة، وإنما قَابَل بصلاة الفذِّ ليُظْهِرَ فضل الجماعة، فهو لِتَعْقِلَ صورة الحساب فقط، كما في حديث الزكاة: «في كل أربعين درهمًا درهمٌ»، لا يريد به بيان النصاب ليجب درهمٌ في أربعين درهمٍ، إنما يُريد به الحساب، فالخمسةُ في المائتين كالدرهم في الأربعين. وهكذا في قوله: «صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذِّ» بكذا مرتبة؛ إنما سِيق لبيان الحساب، لا لصحة صلاة الفذِّ بمعنى عدم نقصان فيها. ثم ذِكْرُ النوم ههنا أيضًا ضمني، والمراد به: عدم الانتظار، سواء نام أو اشتغل بأمرٍ آخر، لأنه إذا لم يُصَلِّها مع الجماعة، فصلاته مَفْضُولةٌ مطلقًا سواء نام أو لم يَنَمْ، وقد سَبَقَ نَقلا من إمام الحرمين على طريق الضابطة الكليَّة أن أخذَ المسائل لا ينبغي مما يَرِدُ في سياق التشبيه، فقد تُشَبَّهُ أمورٌ مرغوبةٌ بأمورٍ مكروهةٍ، كتشبيه صوت الوحي بصَلْصَلة الجرس، واستقرار الدين في المدينة برجوع الحية إلى حُحْرِها، وغير ذلك وإنما يكفي لصدقه صورة ما، فعلى هذا لو دَخَل رجلٌ في المسجد ولم يعلم متى يجيء الإمامُ، جاز له في بعض الأحوال أن يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا ثم ينام؛ فالجواز في بعض الصور يكفي لصِدْق هذا الحسابِ ولا يُوجبُ أن تكونَ الصلاةُ منفردًا. ثم النومُ جائزٌ على الإطلاق، وللحنفي أن يقول: إن الرجلَ إذا كان مُنْكَسِرًا فاتِرًا، فله أن يُصَلِّيَ وينام عندنا أيضًا، فإن ضَعْفَه وانكساره له عذرٌ، ومن الأعذار في كُتُبنا ما هو أهون منه. ففي الفِقْه أن من يَزْدَحِمُ عليه الفتاوى، وهو مشتغلٌ في مراجعة الكُتُب، جَازَ له ترك الجماعة. وفيه: أن حنفيًا لو ناظر شافعيًا في رمضان، ورأى أن الصومَ يُضْعِفُه جَازَ له الإفطار. قلتُ: ولا ينبغي العمل بهما، فإنهم قاسوا المناظرة في المسائل على الجهاد في المعاركِ فأباحوا الإفطار وهذا فاسدٌ والفارقُ واضحٌ، وكذا الأُولى فإنها تُفْضِي إلى التهاون في أمر الجماعة. والحاصل: أنه لا ينبغي أخذ المسائل الغير المعروفة بألفاظ مشتبهة فيما اشتهرت وظيفته واستقرت شريعته، والله تعالى أعلم بالصواب.
653- (قوله): (الشهداءُ خمسةٌ)، وقد عَلِمْتَ أن الشهداءَ في الأحاديث أعمُّ ممَّا في الفقه، وكتب السيوطي رحمه الله تعالى رسالةً في الشهداء، وعدَّهم الأَجْهُوري المالكي إلى ستين، فلمَّا رأيت أن الأحاديثَ لا تستقرُّ فيه على عددٍ معيَّن، بدا لي أن تُوضَعَ له ضابطة، فاستفدتُ من الأحاديث: أن كل من مات في عِلَّةٍ مُؤْلمةٍ متماديةٍ، أو مرضٍ هائلٍ، أو بلاء مفاجىءٍ فله أجر الشهيد. فمن النوع الأول: المَبْطُون، ومن النوع الثاني: المَطْعُون، ومن الثالث: الغريق.
قد قلتُ غير مرةٍ: إن الاحتسابَ مرتبةُ علم العلم، ومرتبةُ الاستحضار. وجيء به ههنا للتنبيه على أن في الذهاب إلى المسجد أيضًا أجرًا، ولو لم يُنَّبِّه عليه، لربما سَبَقَ إلى الذهن أنه لا أجرَ فيه، لعدم معنى الطاعة فيه ظاهرًا، فهو موضعُ ذهولٍ.
وهو حديث ابن ماجه، إلا أن إسنادَه ضعيفٌ، ولذا لم يعبِّره بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم
الانتظارُ في الأحاديث وَرَدَ بكلا النحوين: قبل الصلاة، وبعدها لصلاة أخرى. قلتُ: ولا يوجد العملُ بالنحو الثاني عند السلف كثيرًا. 660- (قوله): (سبعةٌ يُظِلْهم الله) وفي بعض الروايات: «ستة»، ولا مفهومَ للعدد، وأمّا الظِّلُّ فيحمله كلٌّ على فَنِّه، فيقول البليغُ: إنه كِنايةٌ أو استعارةٌ عن العُطُوفَة، ويحمله الصوفي على الظِّلِّ في مرتبة التجلِّي. وسنوضحه إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب. 660- (قوله): (رجلان تَحَابَّا في الله)... إلخ. قال السُّبْكي في «عروس الأفراح»: إن التثنية خاصٌّ، إلاّ أنه قد يَعُمُّ باعتبار الأثنينيات، فالمراد به: أيّ رجلين كانا. يمكن أن يُرَاد منه الحب في الله، والبغض في الله، وله شرحٌ آخر تؤيِّده الرواية أيضًا: أنهما ذكرا الله عند اجتماعها، وذكراه عند افتراقهما، وحينئذٍ ذكر التَّحَابُب تمهيدٌ، وذكر الله عند الاجتماع والافتراق مطلوبٌ. ويَدُلُّ الحديث على فضل ذكر الله عند الاجتماع والافتراق، وله حديث في الخارج، وله شروحٌ أخرى مذكورةٌ في الكُتُب، فلتراجع.
وفي الهامش: «غدا» مكان «خرج»، وهو الأولى. وحاصله: أنه لم تَزَل معاملته بالمسجد غداةً وعشاءً. 662- (قوله): (نُزُله)، والنُّزُل: أول ما يُهَيَّأ للضيف، ومحصَّل الحديث: أن المساجدَ تُدْعَى بيوت الله، فمن أتاها ينبغي أن يُعَدَّ له فيها نُزُلٌ.
ذهب طائفةٌ من أهل الظواهر إلى ظاهر الحديث، وقالوا: إن أُقِيمَتِ الصلاةُ وهو في خلال الصلاة بَطَلَتِ صلاته، ولم يَذْهَب إليه أحدٌ من الأئمة غيرها. وقال الجمهور: بل يُتِمُّها ولا يقطعها. وراجع كُتُب الفِقْه. وأمَّا تفصيل المذاهب في الفجر، فقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى في الجديد: إذا أُقِيمَتِ صلاةُ الفجر، فلا صلاةَ مطلقًا، فلا يَرْكَع ركعتي الفجر أصلا، لا في داخل المسجد، ولا في خارجه وقال في القديم مثل الحنفية، وبه قال مالك رحمه الله تعالى غير أنه فرَّق بين الدَّاخل والخارج، فقال: يَرْكعهما خارج المسجد إذا رَجَا أن يُدْرِكَ الركعتين كلتيهما، وإلاّ فلا وقال ابن العربي في «الاقتراب»: يَدْخُلُ فيهما إن رجا القعدة الأخيرة، وهذا مُخَالِفٌ لِمَا في عامة كُتُبهم. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على ما تقرَّر عندي من مذهبه: إنه يَرْكَعُهُمَا خارجه بشرط إدراك ركعة. ولعلَّ التخصيص بالركعة من الاجتهاد ناظرًا إلى مثل حديث: «من أَدْرَكَ ركعة، فقد أدرك الصلاة». ولا رواية عنه في داخل المسجد. وهذا هو المذهب عندي، كما في «الجامع الصغير» و«البدائع»، واختار صاحب «الهداية»، وصرَّحوا به في باب إدراك الفريضة. وصرَّح به علماء المذاهب الأخرى أيضًا كالقَسْطَلاني من الشافعية، وابن رُشْد والباجي من المالكية، ثم وسَّع محمد رحمه الله تعالى في إدراك ركعة، وأجاز بهما عند إدراك القعدة أيضًا. ثم مشايخنا رحمهم الله تعالى وسَّعوا بهما في المسجد أيضًا، وأظنُّ أنَّ أول من وسَّع بهما في المسجد هو الطحاويُّ، فذهب إلى جوازهما في ناحية المسجد بشرط الفَصْل بينهما وبين المكتوبة، حتَّى لا يُعَدَّ واصلا بينهما وبين المكتوبة، وهو مثار النهي عنده ولعلَّك عَلِمْتَ أن القَيْدَين الَّذَيْن كان صاحب المذهب ذكرهما ارتفع أحدهما بتوسيع محمد رحمه الله تعالى، والآخر بتوسيع الطحاويِّ رحمه الله تعالى. أمَّا أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس، غير أني لا أُنَازِعُ من صلاهما في المسجد، وأقول: لعلَّه أَخَذَ بقول محمد رحمه الله تعالى والطحاويِّ رحمه الله تعالى. هذا هو تحريرٌ لمذهب الإمام الأَعْظَم عندي. وأمَّا مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فقد عَلِمْتَه. وتمسُّكه من حديث الباب، فإنه يَدُلُّ على النهيِّ عن الصلاة بعد الإقامة مُطْلقًا، سواء كان في المسجد أو خارجه. فكأن مَنَاط النهيِ عندهم: الدخول في سنة الفجر بعد الإقامة للفرض، ولمَّا لم يكن فيه فرقٌ بين داخل المسجد وخارجه عَمَّ النهيُ أيضًا بعموم المناط، ولم تَجُزْ ركعتا الفجر في الخارج والداخل مطلقًا. فأجاب عنه الطحاويُّ: أمَّا أولا: فبأن الحديثَ موقوفٌ وليس بمرفوع، كما يُعْلَمُ من صنيع البخاري في «صحيحه»، حيث لم يُعَبِّرْهُ بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وإن مال في «جزء رفع اليدين» إلى رفعه، ولكن العِبْرَة بما في «الصحيح» لأن دَأْبه في الخارج أوسع، وفي «الصحيح» أحكم. فإنه قد يَلْتَزِمُ في الخارج بعض ما يكون بديهي البُّطْلان، كدعواه في عدم ثبوت ترك الرفع عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ومنه قوله بعدم أدراك الركعة بإدراك الركوع عندهم، وكل ذلك مما لا يُقْبَلُ، كما فصَّلْته في «نيل الفرقدين»، و«فصل الخطاب». وكذا الشافعيُّ رحمه الله تعالى عَبَّره في «الأم» بقول أبي هريرة، مع اختياره في الجديد مسألة الحديث. وكذا ترجمة ابن أبي شَيْبَة على الحديث المذكور تَدُلُّ على أنه موقوفٌ عنده، وهذا القدر يُوجِبُ التوقُّف في رفعه إن لم يُجْزَم به. وظنِّي أنه جاء بالنحوين: موقوفًا ومرفوعًا، وأجد في الصحابة كثيرًا: أنهم كانوا يستعملون عنوان الحديث المرفوع فيما بينهم على شاكلة الأمثلة السائرة، والمقدمات الدائرة، والمسائل المسلَّمة، وحينئذٍ لا يذكرون له إسنادًا ولا يهتمُّون به لعدم احتياجه إليه واستغنائه عنه عندهم. وقد وقع مثله في حديث: «من كان له إمام.....» الخ، وحديث النهي عن البُتَيْرَاء فزيدُ بن ثابتٍ أَفْتَى في سجدة التلاوة عند مسلم، وابن عمر رضي الله عنه في «الموطأ» بعين هذه الألفاظ: «من كان له إمام....» الخ فتبيَّن لي: أن هذا الحديث قد اشتهر فيما بينهم حتى استعملوه كالمسلَّمات، وإن ذَكَر له ابن الهُمَام إسنادًا صحيحًا على شرط الشيخين أيضًا، وراجع رسالتي، فإذا لم يتعرَّضُوا لإسناده في الصدر الأول، وتَدَاوَلُوه فيما بينهم كالمسلَّمات، خَفِي إسناده فيما بعد لا محالة. فجعل بعضهم يَزْعُمُ أنه موقوفٌ لصحة طُرُقه واستقامة إسناده، بخلاف إسناد المرفوع، ومنهم من يجعله مرفوعًا لاكتفائه بالثبوت في الجملة، وعدم تنقيره فيه، والأمرُ في مثله ما نبَّهناك آنفًا، فانظر فيه بعين الإنصاف، وإياك وخُطَّة الاعتساف. وأمَّا ثانيًا، فكما عَلِمْتَ أن المناط عنده ليس ما نقَّحُوه، بل هو وَصْلُه بين نافلة العبد، وفريضة الله مكانًا، وذلك لأن المناطَ لو كان ما ذكروه لاقتصر النهيُ على ما بعد الإقامة فقط، مع أنه ثَبَتَ النهيُ عنها قُبَيْل الإقامة وبعدها، وبعد الفراغ عن الصلاة أيضًا: فدلَّ على أنه لا دَخْل فيه للإقامة، فحديث مالك بن بُحَيْنَة في «الصحيحين»: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم رأى رجلا وقد أُقِيمَت الصلاة يُصَلِّي ركعتين... فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم آلصبح أربعًا» وعند مسلم: «أَتُصَلِّي الصبح أربعًا»؟ ا ه. وَرَدَ فيما بعد الإقامة، وكذا حديث عبد الله بن سَرْجِسَ عنده، وفيه قال: «دَخَلَ رجلٌ المسجدَ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في صلاة الغداة، فصلَّى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: يا فلان، بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ: بصلاتك وَحْدَكَ، أم بصلاتك معنا». وعند أبي داود قال: «يا فلان، أيتهما صلاتك: التي صلَّيت وَحْدَكَ، أو التي صلَّيتها معنا»، فهذان أيضًا فيما بعد الإقامة. وأما النهيُ عنها بعد الفراغ عن الصلاة، فكما في حديث قَيْس بن عمرو عند أبي داود، قال: «رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم رجلا يُصَلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيت الركعتين اللتين قبلهما، فصلَّيتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وعند الترمذي: «مهلا يا قَيْس، أصلاتان معًا؟ قلتُ يا رسول الله، إني لم أكن رَكَعْتُ ركعتي الفجر، قال: فلا إذن». ا ه. أما قوله: «مهلا يا قَيْس»، فهو على وزَان قوله: «مهلا يا عائشة» حين سمعت اليهود يسلِّمون عليه بالسَّام عليك، أي: رِفْقًا، وعلى هذا يَلِيقُ أن يكونَ الخطابُ به قبل الشروع، مع أنه لا يُلائم سائر طُرُقه، فإِنه يَدُلُّ على أنه خاطبه بعدما فَرَغَ عنها. وكذلك لا يُلائِمُ قوله: «لم أكن» بالنفي في الماضي. ولعلَّ قَيْسًا لمَّا أراد أن يَرْجِعَ إلى بيته بعد الفراغ عنها، استوقفه ليعلِّمه المسألة، فقال: «مهلا». ثم إن هذا اللفظ أخرجه مالك رحمه الله تعالى في صلاتهم قبل الفجر، والترمذي فيما بعدها، ويُتَوَهَّمُ منه أنه اضْطِرَابٌ. فعند مالك عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن قال: «سَمِعَ قومٌ الإِقامةَ فقاموا يُصَلُّون، فخرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أصلاتان معًا أصلاتان معًا» وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح ا ه. ولعلَّك عَلِمْتَ من هذه الأحاديث: أن النهيَ لا يختصُّ بما بعد الإقامة، بل يَعُمُّه وما بعد الصلاة أيضًا، وإذن لا يكون المثار ما قالوه، بل يجوز أن يكونَ المناط ما علَّل به الطحاويُّ: وأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بهذا النهيِ أن يُصَلِّي غير الفريضة في الموطن الذي صُلِّيَتْ فيه الفريضة، فيكون مصلِّيها قد وَصَلَها بتطوُّعٍ، فيكون النهيُ من أجل ذلك، لا لمن يُصَلِّي في آخر المسجد، ثم يَتَنَحَّى من ذلك المكان، فَيُخَالط الصفوف ويَدْخُل في الفريضة، ويَدُلُّ عليه ما رواه الطحاويُّ عن محمد بن عبد الرحمن: «أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم مرَّ بعبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة وهو مُنْتَصِبٌ يُصَلِّي ثَمَّةَ بين يدي نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة، كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينها فصْلا». ا ه. ولعلَّ الطحاويَّ حَمَلَه على عدم الفصل مكانًا، إلا أنه يَرِدُ عليه: أن لا يكون الفصلُ مطلوبًا في الظهر، ولا يقول به أحدٌ، وتفسيرُه عندي: أن سنةَ الظهر قد تُؤدَّى فى المسجد بخلاف سنة الفجر، كما يَظْهَرُ من حديث البخاري. ولعلَّه تعليمٌ لأمرين: جواز سنة الفجر، فإنه ليس بعدها، والأمر الثاني: الفصل. قال الطحاويُّ: فبيَّن هذا الحديثُ أن الذي كَرِهَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم لابن بُحَيْنَة: هو وَصْلُه إياها بالفريضة في مكانٍ واحدٍ لم يَفْصِلْ بينهما بشيءٍ، فتحصَّل أن المناطَ هو الفصلُ، لا ما قالوه. ثم يُعْلَمُ من الأحاديث: أن الفصلَ مطلوبٌ في المَكْتُوبات كلِّها وإن كان في سنة الفجر آكَدَ وأبلغَ، فعنده عن أبي هُرَيْرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا قال: «لا تكاثروا الصلاة المكتوبة بمثلها من التسبيح في مقامٍ واحدٍ». وعند مسلم في الجمعة، عن عمر بن عطاء، في قصة السائب مع معاوية. «فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذا صلَّيت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاةً حتى تتكلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا بذلك أن لا نُوصِلَ بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ». ا ه. ولذا أقول: إن الفصلَ عندي عامٌّ سواء كان بالمكان أو بالقول، وإن كان عند الطحاويِّ بالمكان فقط، وأنتَ تَعْلَمُ أن العبرةَ بعموم اللفظ لا لخصوص المَوْرِد، فالحديث وإن وَرَدَ في الجمعة، لكنه يَعُمُّ في سنة الفجر أيضًا. وعند النَّسائي: «عليكم بهذه الصلاة في البيوت»، ولم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أداء السنن في المسجد إلا مرةً أو مرتين. فإن قلتَ: إن تصديره بقوله: «إذا أُقِيَمت الصلاة» يَدُلُّ على أن المناط: هو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، كما زَعَمَه الشافعية. قلتُ: نعم، وله أيضًا دَخْلٌ، إلا أنا لمَّا رأينا الإنكار قُبَيْل الإقامة وبعدها وبعد الفراغ، عَلِمْنَا أن الدعامةَ هو عدم الفصل. ثم أخرج الطحاويُّ آثارًا عديدة تَدُلُّ على جواز السنة في ناحية المسجد، منها عمل العَبَادِلة الثلاثة: ابن عمر رضي الله عنه مع كونه راوي الحديث، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما. وأخرج ابن أبي شَيْبَة نحو تسع من الآثار تَدُلُّ على جوازها خارج المسجد، وفي البعض إيهامٌ بكونها خارج المسجد أو داخله. ثم إنه وقع عند البيهقيِّ في الحديث المذكور استثناءُ ركعتي الفجر. وهو مُدْرَجٌ عندي، وليس بموضوع، ومن حَكَمَ عليه بالوضع، فكأنه أراد به الإدراج. ونقيضه في «كامل ابن عدي»، وهو أيضًا لا يَصِحُّ. وعندي: من روى الاستثناء أو النفي، كان هو في الحقيقة مذهبه، فاختلط بالمرفوع. ثم أقولُ: والمناط على ما حقَّقت من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو الجواز في الخارج دون الداخل، كونه مُصَلِّيًا في المسجد غير الصلاة المكتوبة بعد إقامتها. وحينئذٍ يكون الحكم مقصورًا على المسجد فقط، لكون المسجد داخلا في المثار. وإن كان للإقامه أيضًا بعض دَخْلٍ فيه عندي، لكن العُمْدَة فيه: هو كونه مُصَلِّيًا في المسجد وهو مدار الحكم بالجواز وعدمه. وهو الذي فَهِمَه ابن عمر رضي الله عنه، كما قال البهكلي في «شرح النَّسائي»، وقد فَهِمَ ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا المعنى، وأنه مُخْتَصٌّ بالمسجد، لا خارجًا عنه. وهو كذلك في «الفتح». بقي الفرق بين داخل المسجد وخارجه هل اعتبره الشرع أو لا؟ ففيه أحاديث: منها حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه: «أمَّا هذا، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم وزاد أحمد: «أمرنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم إذا كنتم في المسجد فُنُودِي بالصلاة، فلا يَخْرُجْ أحدُكم حتى يُصَلِّيَ»، إسناده صحيح. وحديث: «إذا صلَّيتما في رِحَالكما، ثم أَتَيْتُمَا مسجد جماعةٍ...» الخ. وحديث «لا يَخْرُج أحدٌ من المسجد بعد النداء إلا منافقٌ إِلا رجلٌ يَخْرُجُ لحاجته، وهو يريد الرَّجْعَة إلى المسجد» (عب ق). وقد رُوِيَ: «لا صلاة لمن دَخَلَ المسجد والإمام قائمٌ يُصَلِّي، فلا يَنْفَرِدُ وحده بصلاةٍ، ولكن يَدْخُل مع الإمام في الصلاة». (طب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه). والحاصل: أن المناطَ عند الطحاويِّ: هو عدم الفصل، مكانًا، دون الملام بعدم الاشتراك في الجماعة، أو بعد الإقامة، كيف وقد قال لقيس بعد الفراغ عن الجماعة: «أصلاتان معًا»؟، فهولعدم الفصل، قبل الإقامة كان، أو عندها، أو بعدها. قلتُ: والفصلُ عندي عامٌّ سواء كان مكانًا أو زمانًا وإن أخذه الطحاويُّ في المكان خاصةً، كما يُسْتَفَادُ من لفظ مسلم: «حتى نتكلَّم أو نَخْرُج» وقد مرَّ. وأمَّا عند الشافعية، فهو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، سواء كان خارج المسجد أو داخله. وعندي كونه مُصَلِّيًا في المسجد بعد الإقامة، فللمسجد دَخْلٌ بل هو المناط وقد عَلِمْتَ تغايرُ الحكمين في داخل المسجد وخارجه. وإذ قد راعاه الشرع في غير بابٍ واحدٍ، اعتبرناه في هذا الباب أيضًا. ثم ههنا حديث نقله العَيْنِي عن «صحيح ابن خُزَيْمَة»، ولو صحَّ لكان فاصلا في الباب: عن أنسٍ قال: «خَرَجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم حين أُقِيمَتِ الصلاةُ، فرأى ناسًا يُصلُّون ركعتين بالعَجَلة، فقال أصلاتان معًا؟ فَنَهى أن تُصَلَّيا في المسجد إذا أُقِيمَتِ الصلاةُ». ا ه. وفيه تصريحٌ: أن النهيَ مُقْتَصِرٌ على المسجد، وهو المناط على ما حقَّقت سابقًا، وهذا الحديثُ أَصْرَحُ فيه، لكونه واردًا في خصوص سنة الفجر، بخلاف الأحاديث المارَّة، فإنها وإن دَلَّت على الفرق بين الداخل والخارج، لكنها لم تُرْوَ في خصوص سنة الفجر. فلقائلٍ أن يقولَ: إن هذا الفرق اسْتُفِيدَ مع الأحاديث العامة، وقد عَلِمْنَا عدمه في سنة الفجر بحديثٍ وَرَدَ فيها خاصةً، والترجيحُ عندك للخصوص دون العموم. فالذي هو حُجَّةٌ قاطعةٌ هو الحديث الصحيح على شرط ابن خُزَيْمَة، وأخرجه العيني، إلا أني أتردَّد فيه، لما في النُّقُول أن العَيْنِي كان سريعَ القلم جدًا، حتى نقل القُدُورِي بتمامه في يومٍ واحدٍ، وكانَ يَتَعَسَّرُ على الناس قراءة كُتُبه من أجل سرعة قلمه، فَيُمْكِنُ أن يكونَ فيه سهوٌ ثم أخرجه مالك أيضًا، لكن بحذف الجملة الأخيرة. وأخرجه الحافظ في «مسند البزَّار» بحذف: «في المسجد». ولنا أن نحمله على رواية وجوب سنة الفجر أيضًا، وحينئذٍ فهي داخلةٌ في الاستثناء، ولا سؤال ولا جواب. وبعد هذا الإطناب والإسهاب، أريد أن أُلْقي عليك فرقًا بين ما وَرَدَ في صِيَغ الإنكار، فقال تارةً: «أصلاتان معًا» وتارةً: «الصبح أربعًا»؟ وأخرى: «بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ؟» فاعلم أن كلَّ ذلك إنكارٌ بأوصاف، ولا تعرُّض فيها لوقوعها بعد الإِقامة، ولا لكون الوقت وقت كراهة، وذلك لأنه من باب تلقِّي المُخَاطب بما لا يُتَرَقَّب، ولا يتأتَّى في ذكر السبب الواقعي، فحاصل الأول: أتجعل الصلاتين الموقَّتتين بوقتين في وقتٍ واحدٍ؟ وحينئذ يكون الإِنكار على عدم فَصْلِه زمانًا، ومحطُّه كراهة الجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ. ويَصْلُحُ لعدم الفصل مكانًا أيضًا، فإِن «مع» كما في «القاموس»: تكون بمعنى «عند» أيضًا، فَيصِيرُ معناه: أتُصَلِّي صلاتين مكانهما على حِدَةٍ في مكانٍ واحدٍ؟ وحينئذٍ يفيد الطحاويّ. وحمله ابن رُشْد على الاختلاف على الإمام، ولا يَظْهَرُ إلا إذا خالط الصفوف. وفي لفظ: «أَتُصَلِّي صلاةً واحدةً مرتين»؟ يعني لكون هذا الوقت وقت الفرض، فإذا وصل غيره، فكأنه صلَّى فرضين، ومحطُّه كراهة تكرار الفريضة في نظر صاحب الشرع. ولمّا كان الشروع في حديث ابن بُحَيْنَة بعد الإقامة ألزمه بقوله: «آلصبح أربعًا؟ ومحطُّه كراهة جعل الثنائية أربعًا. وتلك مسائل من غير هذا الباب تُلْمَحُ من عرض الكلام، تأتي كلُّها على فقه الحنفية. وسوق التعبير يَدُلُّ عليها كأنها مفروغٌ عنها في نظر الشارع، فبنى عليها التعبير كأنه مسلَّمٌ ومعلومٌ، وبها يتأتَّى الإِنكار. فإِن فَرَضْنَا أن لا كراهة في: الجمع بين الصلاتين، أو تكرار الفريضة مرتين، أو جعل الثنائية أربعًا، لا يكون في هذه العبارات رَدْعٌ وتوبيخٌ. بقي قوله: (فلا إذن) قال الشافعي: معناه: فلا بأسَ إِذن، فدلَّ على جواز قضاء ركعتي الفجر إن لم يصلِّها قبل فرضه، وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: معناه: فلا جوازَ إذن، إلا أنه لا يَظْهَرُ فيه منى الفاء، بخلاف ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى، فإنها تكون فصيحةً. فتردَّدت لنظيره حتى وَجَدْتُ في «الكشاف» قُدِّرَ بمثله في قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) دخلت الفاء فيها في موضع الإنكار. قال الزمخشري: معناه أمّا معجزاتُ الأنبياء عليهم السلام فكنتم تَزْعُمُونها سِحْرًا، فما تَنْظُرُون الآن من أهوال المحشر، فهي سِحْر أيضًا. وترجمته عندي (نهر بهى نهين). كما في الحديث: إنا كنا قد صلَّينا في رِحَالنا، قال: فلا تَفْعَلا، إذ أتيتما مسجد جماعةٍ.... الخ. (يعنى بهر بهى نهين) يعني: لا تفعلوا وإن كنتم صلَّيتم في بيوتكم، فالفاء في هذه المواضع كلِّها في محل الإِنكار. وبعد هذا الإطناب والإسهاب، أريد أن أُلْقي عليك فرقًا بين ما وَرَدَ في صِيَغ الإنكار، فقال تارةً: «أصلاتان معًا» وتارةً: «الصبح أربعًا»؟ وأخرى: «بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ؟» فاعلم أن كلَّ ذلك إنكارٌ بأوصاف، ولا تعرُّض فيها لوقوعها بعد الإِقامة، ولا لكون الوقت وقت كراهة، وذلك لأنه من باب تلقِّي المُخَاطب بما لا يُتَرَقَّب، ولا يتأتَّى في ذكر السبب الواقعي، فحاصل الأول: أتجعل الصلاتين الموقَّتتين بوقتين في وقتٍ واحدٍ؟ وحينئذ يكون الإِنكار على عدم فَصْلِه زمانًا، ومحطُّه كراهة الجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ. ويَصْلُحُ لعدم الفصل مكانًا أيضًا، فإِن «مع» كما في «القاموس»: تكون بمعنى «عند» أيضًا، فَيصِيرُ معناه: أتُصَلِّي صلاتين مكانهما على حِدَةٍ في مكانٍ واحدٍ؟ وحينئذٍ يفيد الطحاويّ. وحمله ابن رُشْد على الاختلاف على الإمام، ولا يَظْهَرُ إلا إذا خالط الصفوف. وفي لفظ: «أَتُصَلِّي صلاةً واحدةً مرتين»؟ يعني لكون هذا الوقت وقت الفرض، فإذا وصل غيره، فكأنه صلَّى فرضين، ومحطُّه كراهة تكرار الفريضة في نظر صاحب الشرع. ولمّا كان الشروع في حديث ابن بُحَيْنَة بعد الإقامة ألزمه بقوله: «آلصبح أربعًا؟ ومحطُّه كراهة جعل الثنائية أربعًا. وتلك مسائل من غير هذا الباب تُلْمَحُ من عرض الكلام، تأتي كلُّها على فقه الحنفية. وسوق التعبير يَدُلُّ عليها كأنها مفروغٌ عنها في نظر الشارع، فبنى عليها التعبير كأنه مسلَّمٌ ومعلومٌ، وبها يتأتَّى الإِنكار. فإِن فَرَضْنَا أن لا كراهة في: الجمع بين الصلاتين، أو تكرار الفريضة مرتين، أو جعل الثنائية أربعًا، لا يكون في هذه العبارات رَدْعٌ وتوبيخٌ. بقي قوله: (فلا إذن) قال الشافعي: معناه: فلا بأسَ إِذن، فدلَّ على جواز قضاء ركعتي الفجر إن لم يصلِّها قبل فرضه، وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: معناه: فلا جوازَ إذن، إلا أنه لا يَظْهَرُ فيه منى الفاء، بخلاف ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى، فإنها تكون فصيحةً. فتردَّدت لنظيره حتى وَجَدْتُ في «الكشاف» قُدِّرَ بمثله في قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) دخلت الفاء فيها في موضع الإنكار. قال الزمخشري: معناه أمّا معجزاتُ الأنبياء عليهم السلام فكنتم تَزْعُمُونها سِحْرًا، فما تَنْظُرُون الآن من أهوال المحشر، فهي سِحْر أيضًا. وترجمته عندي (نهر بهى نهين). كما في الحديث: إنا كنا قد صلَّينا في رِحَالنا، قال: فلا تَفْعَلا، إذ أتيتما مسجد جماعةٍ.... الخ. (يعنى بهر بهى نهين) يعني: لا تفعلوا وإن كنتم صلَّيتم في بيوتكم، فالفاء في هذه المواضع كلِّها في محل الإِنكار. والجواب الصواب عندي: أنه لا تمسُّكَ للشافعية في هذه الأحاديث، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم إذا سَبَقَ منه الإنكار مرةً دَلَّ على أنه لم يَرْضَ به. نعم لم يَتَعاقَبْ عليه فيما بعد، وأي حاجةٍ إلى التعاقُب إذا أنكر عليه مرةً، وهذا كما رُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها عند النَّسائي، في قصة حجة الوداع: «إني صُمْتُ يا رسول الله، وأفطرتُ، وأتممتُ فَقَصَرْتُ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم أحسنتِ يا عائشة» رضي الله عنها، مع أنه لم يَثْبُت الإتمام عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وخلفائه في السفر ولو مرةً، حتَّى تأوَّل فيه عثمان رضي الله عنه وأتمَّ، فهذا نحو مسامحةٍ وإغماضٍ عمَّا صَدَرَ منها، وهي لا تعلم المسألة، لا أنه استحسانٌ منه وإباحةٌ لِمَا فَعَلَتْهُ. وأصرح حُجَّةً لنا في عدم قضاء سنة الفجر بعد الفرض ما أخرجه أبو داود في باب المسح على الخفين، وفيه: «فلما سلَّم- عبد الرحمن بن عَوْف- قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فصلَّى الركعة التي سُبِقَ بها، ولم يَزِدْ عليها شيئًا. ا ه. والظاهر أنه أراد نفي السنة، لا نفي سجدة السهو وإن بوَّب به أبو داود. وحينئذٍ تأيَّد شرح قوله: «فلا إذن» من جهة صاحب الشرع نفسه. 663- (قوله): (يُقَال له مالك بن بُحَيْنَة) وهو خطأٌ قطعًا، لأن بُحَيْنَة ليست أم مالك، بل هي زوجته، وليس مالكٌ صدابيًا، فإنه لم يُسْلِم، ومات في الجاهلية، نعم ابنه عبد الله صحابي، وبُحَيْنَة أمه، فينبغي أن يُرْسَم الابن بالألف، ويُقْرأ مالك بالتنوين هكذا: عبد الله بن مالكِ ابن بُحَيْنَة، ليكون مالك أبوه، وبُحَيْنَة أمه، وهذا هو الصواب، وكان المناسب للبخاري أن يُنَبِّهَ عليه.
يريد به تحديد المرض المرخِّص لترك الجماعة، ويمكن أن يُرَاد به الإيماء إلى تحديد المسافة أيضًا، أي بكم مسافة يأتي المريض، والظاهر هو الأول. واعلم أنه قد مرَّ الكلام في شركة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في الصلوات بعدما ثَقُلَ عليه، فقال البيهقيُّ: إنه لم يشهد سبع عشر صلاة إحداها عشاء يوم الخميس، وأخرى فجر يوم الاثنين، والتزم أنه صلى الله عليه وسلّم كان لاحقًا في فجر الاثنين وقد دَخَلَ في ظهرٍ من تلك الأيام أيضًا. وتَبِعَهُ الزيلعيُّ في ذلك. واختار الحافظ غيبته خمسة أيام، كما يَلُوح من حديث مسلم، وقد مرَّ الجمع بينهما، ولم يُسَلِّم الشركة إلا في ظهرٍ من تلك الأيام. وعندي ثبتت شركته في أربع صلوات، ولا أدَّعي أنها كانت متواليات. 664- (أَسِيفٌ) (نرم دل جو مغموم رهتاهو). قوله: (صواحب يوسف) ولمَّا كانت عائشةُ رضي الله عنها تُضْمِرُ في نفسها أن لا يَتَشَاءَمَ الناس بأبيها، ولم تكن تُظْهِرُه بلسانها، شَبَّهها بصواحب يوسف، حيث كُنَّ يَكْتُمْنَ ما في قلوبهن أيضًا، ويُبْدِينَ غيره، فَيَلُمْنَ زَلِيخَا على حبِّها يوسف عليه السلام. 664- (قوله): (فخرج يُهَادَى)... الخ. يقول الحافظ رحمه الله تعالى إنه لم يَخْرُج في تلك الصلاة، بل خَرَجَ في ظُهْرٍ من تلك الأيام، ويَلْزَمُه نقض السلسلة. قلتُ: بل خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في هذه العشاء، كما هو ظاهر السياق ولا حاجةَ إلى النقض. 664- (قوله): (حتى جَلَسَ إلى جَنْبِهِ... وزاد أبو معاوية: عن يَسَار أبي بكر رضي الله عنه) وهذا هو الصحيح، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إمامًا في تلك الصلاة، وهذا هو موقف الإمام إذا كان خلفه، رجلٌ وكان أبو بكر عن يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو موقف الفرد من الإمام. وعند ابن ماجه: «جلس إلى يمينه»، وهو غلطٌ، وهذا الحديث عندي من اثني عشر كتابًا، ويلزم عليه: إمَّا مخالفة موقف الإمام، أو كونه صلى الله عليه وسلّم مأمومًا، وكلاهما خلاف الواقع. وفي حديث ابن ماجه: «أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أخذ القراءة من حيث تركها أبو بكرٍ رضي الله عنه»، فلا أقل من أن تَفُوت عنه بعض الفاتحة، فتمسَّكْتُ منه على مسألة الحنفية، وبيَّنته مُفَصَّلا في رسالتي بالفارسية. بقيت مسألة الاستخلاف، فهي محمولةٌ عندي على خصوصيته صلى الله عليه وسلّم على ما مرَّ: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يَؤُمَّ النبيَّ إلا بتقريره، مع أنه جائزٌ إذا حُصِرَ الإمام وعند ابن ماجه: «إن أبا بكر رجلٌ حَصِرٌ»، فاسترحنا على هذا التقدير أيضًا. ثم إن بعضهم تمسَّك من هذه الواقعة على تسلسل الاقتداء إلى آخر الصفوف، كما يأتي في متن الصحيح: «والناس مقتدون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه» والجواب أنه اقتداءٌ لغويٌّ، فإِن المتأخِّر يُقَال له المقتدي بالنسبة إلى المتقدِّم. ولم يذهب إليه من السلف أحدٌ غير الشعبي، وابن جرير، وبعضٌ آخر.
وهو عذرٌ للجمعة عند فقهائنا أيضًا. ولكن استفتِ قلبكَ أولا، فإِنه خيرُ مُفْتٍ، وإن للإِنسان على نفسه بصيرةٍ، ولو أَلْقَى معاذيره. 666- (قوله): (أَلا صَلُّوا في الرِّحال)، ولعلّه نُودِي به عند تمام الأذان ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رخَّص لعِتْبَان الأعمى في ترك الجماعة، ولم يُرَخِّص لابن أمِّ مكتومٍ، لأنه أحبَّ لابن أمِّ مكتومٍ أن يعمل بالعزيمة، ورخَّص لعِتْبَان أن يَعْمَل بالرُّخصة، هكذا قال الشاه ولي الله في «حجة الله». قلتُ: ويمكن أن يُفَرَّق بينهما: بأن أحدهما كان يَسْمَعُ التأذين دون الآخر، فأكَّد الحضورَ لمن سَمِعَ النداء. فإن كان هذا، فهو منصوصٌ في الحديث. وحاصلُه: أن في الأعذار مراتب، فلعلَّ عُذْر ابن أمِّ مكتومٍ كان دون عُذْر عِتْبَان، فرخَّص لواحدٍ دون الآخر.
يعني هل يجوز له أن يُصَلِّي بمن حَضَرَ، ولا يترقَّب لسائرهم فالجواب: أنه يجوز، لا سيَّما بعد ندائه بالصلاة في الرِّحال. ثم قوله: «ونَضَحَ طرف الحصير» في قصة عِتْبَان الآتية، أمكن أن يكون وَهْمًا من الراوي، فإِنه أكثر ما يُرْوَى في قصة أم سُلَيْم. والله تعالى أعلم.
671- (قوله): (إذا وُضِعَ العَشَاءُ وأُقِيمَتِ الصلاةُ، فابدَؤوا بالعَشَاء) هكذا في فقهنا وينبغي أن لا يُتَوَسَّعَ في مثل هذه المسائل، ولينظر الإِنسان لدينه أنه ما يقدِّم لغدٍ. وكيف يُسْتَدَلُّ بهذا مطلقًا، وفي «مشكل الآثار»: أنه في حقِّ الصائم، وفي صلاة المغرب خاصةً. وكان يَعْمَلُ به ابن عمر رضي الله عنه، لكونه كثيرَ الصيام، قليلَ الإفطار. وما أظرف ما رُويَ عن إمامنا رحمه الله تعالى: لأن يكون أكلي كلُّه صلاةً، أحبّ إليّ من أن تكون صلاتي كلُّها أكلا. 672- (قوله): (ولا تَعْجَلُوا عن عَشَائكم) (بي مزه نهو جاق).
أي جاز له أن يَفْرُغَ عنه. والنبيُّ صلى الله عليه وسلّم إنما طَرَح السِّكِّينَ، ودَخَلَ في الصلاة، لأن الطعامَ كان ممَّا لا يَفْسُد بالتأخير، مع أنه يمكن أن لا يكون له حاجةٌ فيه.
وكان زُرَارَة بن أبي أوفى- أحدٌ من التابعين إذا رَفَع مِطْرَقَتَه وسَمِعَ الأذانَ، وضعها كذلك، وكان حدادًا. وفي إسناده الأسود، وهو من أخصِّ تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه، وكان يسألُ عائشةَ رضي الله عنها عن أمورٍ مهمةٍ، وابن أخي عَلْقعمة. لم يَتْحرُك عامًا إلا وحَجَّ فيه، وكان يهدي إلى عائشة رضي الله عنها الصدِّيقة. ثم هو من رواة الكوفة، ومذهبه تَرْكُ رفع اليدين. فانظر إلى جلالة قدره، وجلالة أساتذته، وملازمته معهم. ثم اقدر قدر مختاراته.
يعني به: أن تلك صلاته لمَّا كانت لتعلُّمهم فقط، فهل بقيت فيها جهة لله، أو صارت لغير الله تعالى؟ فقال: إن الصلاةَ بمثل هذه النية لا تكون لغير الله. وهكذا تردَّدوا في تحية المسجد، فإن التحية ينبغي أن تكون لله تعالى، لا للمسجد. 677- (قوله): (شيخنا هذا): وهو عمرو بن سَلَمَة الذي كانت أسْتُهُ تَنْكَشِف عند السجود، كما عند أبي داود وكان إمامَ الحيِّ. 677- قوله: (وكان شيخًا يَجْلِس)... الخ، يعني به جلسة الاستراحة. وفي «البحر» عن الحلواني رحمه الله تعالى: أن الخلافَ فيه خلافُ الأفضلية، وهو المختار عندي. فما في الكبيري: إيجابُ سجدة السهو على من جلسها محمولٌ عندي على ما أطالها فزادت على قَدْر السُّنة. وما أجابَ به الطحاويُّ رحمه الله أنه كان للعُذْرِ ليس بسديدٍ عندي. بل الجواب أنها كانت، ثم خَمَلَت خُمُولا أفضى إلى إنكارهم عليها كما في البخاري في باب المُكْث بين السجدتين، عن أيوب: «كان يَفْعَلُ شيئًا لم أرهم يفعلونه: كان يَقْعُدُ في الثالثة أو الرابعة»، وهذا يَدُلُّ على غاية خُمُوله. ونظيره الركعتان قبل المغرب، فإِنها أيضًا صارت خَامِلة، حتى قال فيها ابن عمر رضي الله عنه ما قال. وفي «منتقى الأخبار» عن أحمد رحمه الله تعالى: إن أكثر الأحاديث تبني على ترك الجلسة، وهو من تصانيف الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية الكبير- جد ابن تيمية المعروف- «ونيل الأوطار» للشوكاني: شرح «المنتقى». هذا وبالجملة كفانا لمفضوليته قول أحمد وما رُوي في البخاري، وللجواز: تصريحُ الحلواني. وهذا الذي أقول في مواضع عديدة، ولا أحب لفظ النسخ إلا حين يُسْفِرُ إسفارَ الصبح.
اختار مذهب الحنفية، وقدَّم الأعلم على الأقرأ، وهو روايةٌ عن الشافعيِّ رحمه الله تعالى أيضًا. وفي المشهور عنه: تقديم الأقرأ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف رحمه الله تعالى منا. واستدلَّ عليه المصنِّف رحمه الله تعالى بإمامة أبي بكر رضي الله عنه، فإِنه كان أعلمهم. ولو كان المقدَّم هو الأقرأُ، لكان أُبَيُّ أَوْلى بها، فإِنه كان أقرؤهم بنصِّ الحديث. ومن ههنا تبيَّن أن تقديمَه عند البخاريِّ كان من جهة علمه، لا لكونه إمامًا عامةً وإلا لا يَصِحُّ منه الاستدلال. ثم إن حديث تقديم الأقرأ عند مسلم، وتركه المصنِّف رحمه الله تعالى. وكذا التفريع عليه، وهو متمسَّك الشافعية. قلتُ: الحديث وَرَدَ على عُرْفهم، لا على العُرْف الحادث. والأقرأُ عندهم كان أحفظهم قرآنًا، أي من كان القرآن عنده أَزْيَد، لأنهم كانوا أهل اللسان غير مُفْتَقِرين إلى تصحيح الحروف، ولمَّا فَشَا الإسلام إلى الأطراف، وقرأه العجمُ أيضًا، افْتَقَرُوا إلى تصحيح الحروف. فالمراد من الأقرأ في الفِقْه: هو المجوِّد دون الأحفظ وحينئذٍ خَرَجَ الحديث عن مَوْرِد النزاع، فإِن الخلاف في الفِقْه في تقديم المجوِّد أو الأعلم، لا من كان أكثر حِفْظًا للقرآن. ثم أَدَّعى صاحب الهداية رحمه الله تعالى: أن أقرأهم كان أعلمهم، وأَصَابَ، فإِن الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكونوا يَأْخُذُون القرآن بدون الإمعان في معانيه ومبانيه، وإنما كانوا يَحْفَظُونه مع معانيه، فكان أقرأهم أعلمهم. ولا يَلْزَمُ من ذلك أن لا يكون بينهم فضلٌ في العلم، فإِن العلمَ أيضًا مُتَفاوت، كابن عباس رضي الله عنه، فإن سائرَ الصحابة رضي الله عنهم وإن أخذوا القرآن وتعلَّموه أيضًا، إلا أنهم لم يكونوا مثل ابن عباس رضي الله عنه. ولا رَيْبَ أن الحديثَ، وإن قدَّم الأقرأ في اللفظ، إلا أنه لم يَعْتَبِر جهة الترجيح إلا العلم، ولذا قال: «فإِن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسُّنة»، فَعُلِمَ: أن العلم هو جهة الترجيح عنده، دون الزيادة في حِفْظ القرآن. وحينئذٍ حاصلُ الحديث: تقديم الأقرأ الأعلم، فإِن كانوا في قراءة القرآن وعِلْمِه سواء، فالترجيحُ بينهما من جهة العلم لا غير. ويُمْكِنُ أن يكونَ القارىء العالم أيضًا مُتَفَاوِتًا في العلم، فإِن المراتبَ لا نهايةَ لها، وكذا العلم. ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن فقهاءنا وإن لم يَعْمَلُوا باللفظ، وهو تقديم الأقرأ إلا أنهم قد عَمِلوا بالغرض، وهو الذي ينبغي. حيث عَلِمُوا أن غرضَ الشارع تقديمُ الأعلم، وإنما قدَّم الأقرأ في اللفظ نظرًا إلى أقرأ زمانه، وهو كان أعلم أيضًا. ومن ههنا سَقَطَ ما أَوْرَدَ عليه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. نعم في صنيع الهداية قصور، وهو أنه صار مُسْتَدِلا بهذا الحديث، مع أنه ينبغي له أن يكون مُجِيبًا عنه. ولو أجاب عنه بما قال، ولم يَسْتَدِلَّ به لمذهبه، لَمَا وَرَدَ عليه ما أورده. ثم المراد من السنة في الحديث: هي المسائل التي عُلِمَتْ بمشاهدة هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهداه. والمراد في الفِقْه من الأعلم بالسنة: أن يُحْسِنَ من القراءة- أي التجويد- قدر ما يُحْسِن بها الصلاة مع كونه أكثر حِفْظًا لمسائل الصلاة. ثم إن با بكرٍ رضي الله عنه كان أعلمهم، بمعنى أكثرهم فَهْمًا، ثم تعلُّقًا بالله وأخشاهم، وإنما يَخْشَى اللَّه من عباده العلماءُ وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «إني أتقاكم لله وأخشاكم»، وإلا، فأبوا هُرَيْرَة رضي الله عنه كان أحفظهم للحديث منه. 680- قوله: (فَنَكَصَ أبو بكرٍ)... إلخ. وظاهره: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يَدْخُل في تلك الصلاة، ولو دَخَلَ فيها لتعرَّض إليها الرَّاوي البتَّة. ومع ذلك قد أصَرَّ البيهقيُّ على شركته في تلك الصلاة، واستدلَّ عليه بروايتين. قلتُ: وقد اجتمعت لديَّ هنا عشرةُ وجوهٍ فصاعدًا تَدُلُّ على شركته في الفجر، فلعلَّه اقتدى فيها من حُجْرَته الشريفة، ولم يَخْرُج إليها في المسجد، كما كانت النساء يَفْعَلْنَ يوم الجمعة، كما في «المدونة»، ولا نَقْلَ عندي على ذلك. ويُخَالِفُه ما عند النَّسائي، فإنه يَدُلُّ على أنه كان وصل الصف، والشافعيُّ أيضًا قائلٌ بشركته في الفجر، ولعلَّها لا تكون عنده إلا فجر يوم الاثنين. والحافظ اتَّبَعَهُ في الوَحْدَة، وخالفه في كونها فجرًا، وذهب إلى أن الصلاةَ التي دَخَلَ فيها هي الظهر. وتمام البحث فيه قد مرَّ من قبل. 681- قوله: (فذَهَبَ أبو بكر يَتَقَدَّم)، وهذا يَدُلُّ على أنه لم يَدْخُل بعدُ في التحريمة، والروايةُ المارَّةُ تَدُلُّ على سبقها، فهذا من تصرُّفات الرواة، فلا قلقَ فيه، فَسَلِ المجرِّب، ولا تسأل الحكيم.
فإن كان واحدًا، يتأخَّرُ عن إمامه بقليلٍ عند محمد رحمه الله تعالى، خشية أن يتقدَّمه فَتَضِيعُ صلاته. ثم إن كان اثنان، فمقامهما خلف الإمام، فإن قاما عن يمين الإمام ويساره، لا يُكْرَهُ عند أبي يوسف رحمه الله تعالى. وإن كان المقام ضيقًا، لم يُكْرَه عندنا أيضًا. وحينئذٍ لا قلقَ فيما يُنْقَلُ من مذهب ابن مسعود رضي الله عنه على أعذاره التي ذكرناها في الترمذي. قوله: (لِعِلَّة). قال أهلُ اللُّغة: العِلَّة معناها: المرض لغةً، لا السبب والوجه، وإن كان مُسْتَعْمَلا فيه. يقول الشاعر: تَعَالَلْتِ كي أَشْجَى وما بكِ عِلَّةٌ *** تُرِيدِين قَتْلي قد ظَفَرْتِ بذلك وصنَّف صاحبُ «القاموس» رسالةً في أن العلل ليست بمعنى بيان السبب والوجه والإثبات بالدليل. 683- قوله: (فَوَجَدَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم في نفسه خِفَّةً). وحَمَلَه الحافظُ على الظُّهْر. ولا أَتْرُك تبادُر العبارة، فالتزمتُ أنه قد دَخَلَ في العشاء التي أُهْرِيق عليه سبع قِرَبٍ من ليلته وقد مرَّ في البخاري من أواخر أبواب الوضوء، أنه قال لَهُنَّ: «قد فَعَلْتُنَّ، ثم خَرَجَ إلى الناس». وأَصْرَحُ منه ما عنده في بال الرجل يأتمُّ بالإمام: «فلمَّا دَخَل- أي أبو بكر في الصلاة، وَجَدَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم في نفسه خِفَّة، فقام يُهَادَى بين رجلين، ورجلاه تَخُطَّان على الأرض، حتى دَخَلَ المسجد»، وفي البخاري: «ثم خَرَجَ إلى الناس، فصلَّى بهم وخَطَبُهم». 683- قوله: (فكان أبو بكر يُصَلِّي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والناس يُصَلُّون بصلاة أبي بكرٍ رضي الله عنه). يريد به الراوي: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إمامًا، وأبا بكر مُبَلِّغًا، ونَسَبَ العَيْني إلى البخاري أن القُدْوَة عنده مُسَلْسَلة، كما ذَهَبَ إليه الشَّعْبِي من السَّلف، وابن جرير. وأنكره الجمهور، فإِن الكلَّ كانوا مقتدين بالإِمام بدون توسُّط، لا أن الصفَّ الأوَّل مقتدٍ للإِمام، والصفَّ الثاني مقتدٍ للصف الأوَّل، وهكذا ثمَّ وثمَّ. وثمرةُ الخلاف تَظْهَرُ فيما إذا رفع الإِمام رأسه عن الركوع والمقتدون، وبقي منهم واحدٌ في الركوع في أواخر الصفوف مثلا، ثم اقتدى به رجلٌ وأدركه في الركوع، فإِنه يُعَدُّ مُدْرِكًا للركعة، عند من اعتبر التَّسَلْسُلِ في القُدْوَة، وأمَّا عند الجمهور، فلا يُعْبَأُ به، ولا يُعَدُّ مُدْرِكًا للركعة بذلك الركوع إلا أن يُدْرِكَ الإِمام فيه. قلتُ: وإن سُلِّم أن ما نسبَ إليه الشيخ صحيحٌ، مع أن الحافظَ رحمه الله تعالى يُنْكِرُهُ، فلعلَّه نشأ من مثل هذا التعبير، وقد عَلِمْتَ ما أراد منه الرَّاوي.
هذه ترجمته، وسيذكُر لها حديثًا فيما بعد. أمَّا قوله: (أو لم يتأخَّر)، فمن باب التكميل، ولدفع توهُّم الاختصاص. قوله: (فيه عائشةُ) واللفظ هذا يريد به: فيه عن عائشة رضي الله عنها. 684- قوله: (فصلَّى أبو بكرٍ): أي دخل في الصلاة. وظفِرْتُ برواية من «مصنَّف عبد الرزَّاق» تَدُلُّ على أنها واقعةٌ السنة الثالثة، وصرَّح فيها الراوي أنها واقعةٌ متقدِّمةٌ جدًا، كما يُعْلَمُ من تصفيقهم، فإنه كان في الأوائلِ ثم نُسِخَ إلى التسبيح، فَلْيَقْصُرها على مَوْرِدِها، ولا تُؤْخَذُ منها المسائل كالتخلُّص إلى الصف الأول. إلا إذا كانت فُرْجة. وقول الحمد، ورفع الأيدي، فإنها- كلَّ ذلك- مخصوصٌ بزمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وقد صرَّح ابن الجوزيّ: أن رفع أبي بكرٍ يديه محمولٌ على الخصوصية، ولا ينبغي أن يُعْمَل بمثله. وهكذا يفعل الفقيه فيما يَفْقد فيه توارثُ العمل، فلا يجعله سنة. وقد استشهد به الطحاويُّ رحمه الله تعالى على أن الكلامَ في واقعة ذي اليدين كان قبل النسخ، وكان في زمنٍ لم يُشْرَعْ فيه التسبيحُ للرجال، والتصفيقُ للنساء، لأنه لو كان متأخِّرًا، لَوَجَب عليهم أن يُسَبِّحُوا أو يُكَبِّرُوا، وهو الذي قد عَلِمُوه من تلقائه صلى الله عليه وسلّم حين تَنُوبُهم نائبةٌ في الصلاة. ولمَّا لم يُسَبِّحُوا وصفَّقوا عُلِمَ أنه واقعةٌ متقدِّمةٌ جدًا لا كما ادَّعى الشافعيةُ أنها متأخِّرةٌ، لأن أبا هُرَيْرَة رضي الله عنه كان شريكًا في تلك القصة، وهو متأخِّر الإسلام أيضًا، فَثَبَتَ تأخُّرها عن نسخ الكلام. (حكم رفع الأيدي للأدعية في الصلاة) 674- قوله: (فَرَفَعَ أبو بكرٍ يَدَيْهِ) وهل يُسْتَحْسَنُ رفع الأيدي للأدعية في خلال الصلاة؟ فاستمع نُعْطِك ضابطةً كليةً في هذا الباب، لعلَّ الله يَنْفَعُك به في كثيرٍ من المواضع، وهي: أن التقريرَ من جهة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قد يكون على الفعل، وقد يكون على النية الناصحة، وادرِ الفرقَ بينهما، وتنبَّه له، ولا تختلط. فإن الفِعْلَ لا يكون سنةً بمجرد التقرير ما دام لم يتبيَّن أنه تقريرٌ عليه، أو تقريرٌ على النية. فإن الفعلَ ربما يكون مَرْجُوحًا، وإنما يَمْدَحُ عليه من أجل النية. نعم إن نُقِلَ إلينا تعامُلُ السلف به، يكون دليلا على أن التقريرَ كان على الفعل، وهذا كما في الصحيح: «أن كلثوم بن هِدْم كان يقرأ بسورة الإِخلاص في كل ركعة مع قراءته بسورةٍ أخرى، فَشَكَا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أحدٌ من أصحابه، فسأله عنه، فقال: فيها صفة الرحمن وإني أحبُّها، فقال له: حُبُّك إياها أَدْخَلَكَ الجنة».- بالمعنى . فهل ترى مع هذا الثناء البالغ أن المسألةَ هي التكرار بسورة الإخلاص في كل ركعة، ولكنه رحمك الله ثناءٌ على نيته مع الإغماض عن فعله، وهو الذي فَهِمَه الصحابةُ رضي الله عنهم. كيف وهم أذكياء الأمة، فلم يَعْمَل به أحدٌ منهم، وحَسَبُوه بشارةً في حقِّه خاصةً، ولو ظَنُّوه مسألةً، لَعَمِلُوا به واحدًا بعد واحدٍ حتى يتسلسل به العمل. ثم لمَّا نُقِلَ عنه السؤال عليه، عُلِمَ عدم الرِّضا به. ولو كان عند مَرْضِيًّا، لَمَا سَأَلَ عنه. وكذلك كل موضع لا يَرْضَى به الشارع يَنْقُلُ فيه أولا سؤاله عليه، ثم قد يتعقَّب عليه إغماضًا عنه عنده كما مرَّ آنفًا فيمن صَلَّى بعد الإقامة وحين الصلاة، أو بعد الفراغ عنها، فأظهر الكراهية من قبله، وقال: «آلصبح أربعًا». أو نحوه، ثم لم يُعَاقِبْهُ. وهكذا عند النَّسائي: «أن رجلا قام بعد التحريمة، وقال: الله أكبر كبيرًا... إلخ من رأيه، فأثنى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فقال: لقد ابْتَدَرَهَا اثنا عشر ملَكَا». وكذلك في رجلٍ آخر عَطَسَ، ثم حَمِدَ الله بكلماتٍ سَنَحَت له إذ ذاك. فكلُّ ذلك ثناءٌ على النيات الحسنة، لا تقريرَا على سنيةِ هذه الأذكار. إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن رَفْعَ أبي بكرٍ رضي الله عنه، وحمده لله جلَّ ذكره أيضًا من هذا القبيل، لا سِيَّما إذا جاء تحت الإنكار. فقد نَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى عن «مسند أحمد»: «لِمَ رَفَعْتَ يَدَيْك؟» فجاء الرفع تحت السؤال أيضًا. فَعُلِمَ أن الرفعَ كان في غير موضعه، لِمَا قَدْ عَلِمْتَ أن سؤاله يكفي دليلا لعدم رضائه، ولا يجب التعاقبُ عليه لا سِيَّما عند الأعذار والأحوال الجزئية. ثم إن الأذكارَ محمودةٌ في الأحوال كلِّها، وعبادةٌ في الأزمان أجمعها، بخلاف الرفع، فإنه ليس عبادةً مقصودةً، فإذا وَرَدَ في غير محله، جاء السؤال. فالرفعُ إن كان عبادةً، ففي موضعٍ مخصوصٍ، وهيئةٍ مخصوصةٍ. أمَّا إذا كان في غير محله، فهو قابلٌ للإنكار. وليس للرجل أن يَرْفَعَ متى شاء، وكم شاء؟ ولس مجردُ تَكثِيْرِهِ أمرٌ مطلوب، وإنما عُرِفَ عبادةً في موضعٍ مخصوصٍ فقط. فاعلمه، ولا تَرْفَعْ رأسك إلى كلِّ رفع اليدين، فإن بعضَه قد دَخَلَ تحت السؤال أيضًا، ولم يَرْضَ به الشارع. 684- قوله: (ما كان لابن أبي قُحَافَة). هذا ما قلتُ لك في الدروس المارَّة: إنه لا يَلِيْقُ برجلٍ من الأمة أن يَؤُمَّ نبيًا، ولا يَؤُمُّ المهدي أيضًا عيسى عليه السلام إلا في صلاةٍ واحدةٍ، وهي أيضًا لكونها أُقِيْمَتْ له، وإنما نَاسَبَ أن يَقَعَ مثله مرةً أو مرتين، لِمَا عند أحمد رحمه الله تعالى في «مسنده»: «لَمْ يَمُتْ نبيٌّ حتى أَمَّهُ رجلٌ من أمته»- بالمعنى . ثم إنه قد ثَبَتَ اقتداء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في عِدَّة مواضع: الأول: عند قُفُوله من غزوة تَبُوك، وكان الإمامُ فيه: عبد الرحمن بن عَوْف، كما هو عند أبي داود، ومسلم في باب المسح على الخفين. والثاني: عند ذهابه إلى قُبَاء للصُّلح. والثالث: في مرض موته، وكان الإمام فيه: أبا بكر رضي الله عنه. ثم إن أبا بكر فَهِمَ أن ذلك الأمر لم يكن على وجه اللزوم، وأن أمره بالاستمرار من باب الإكرام والتسوية بقدره، فَسَلَكَ هو طريق الأدب والتواضع، كذا ذكره الحافظ. 684- قوله: (وإنما التصفيقُ للنساء)، وحمله مالك رحمه الله تعالى على أنه تقبيحٌ لا تقسيم، يعني: أنه من فِعْل النساء، فلا يُصَفِّق أحدٌ.
|